لما قطع الغرب مع حيف الكنيسة كان لا بد له أن ينشئ مفاهيمه الخاصة به. هذه المفاهيم وضعها بطريقة تجعلها لا تتقاطع
لا مع منطلقات الكنيسة و لا مع مرجعياتها. الكنيسة كانت تعتمد في فهم
الإنسان على مبدأ الروح...لذلك قطعت المرجعيات الجديدة مع الروح وعوضتها
بالنفس..لذلك اعتمدت في البداية. على مناهج العلوم القائمة والتي نالت شرف
استقلالها عن الفلسفة. وكان أول الأبواب الذي ارتبطت به هو الطب فكان الطب
بذلك يقدم ما تود معرفته عن السلوك انطلاقا من هذا المنطلق أعتمد المخ(
الجهاز العصبي العلوي) في تفسير الظواهر السلوكية...ثم بتطور الطب وخاصة ما
يخص علم الوضائف منه بجانب المخ المرجع الأكثر اعتمادا للتعرف على
النفس.لكن هذا الباب شجع المهتمين بتنويع اهتماماتهم فوجدوا في التربية ما
يجيب عن بعض تساؤلاتهم وخاصة في أعمال رو سو بستالوتزي وفر وبيل الذين
كانوا من المجددين في هذا الميدان حيث تجاوزوا فكرة ميكانيكية التعليم
معوضين إياها بعملية ديناميكية تربط بين استثارة الاستجابات الطبيعية
وغرس المعلومة التي يود غرسها فيه. فادى هذا للربط بين علم النفس والتربية
مع هر بارت خاصة إذ أصبحت التربية المجال التطبيقي لعلم النفس تقريبا. ولقد
استعلمت مناهج أخرى لفهم وتفهم السلوك نذكر منها العلوم الطبيعية وخاصة
علم الفيزياء في التقائه مع علم الوضائف حيث أستعمل لدراسة الاحساس.
وكانت حاسة البصر هي النموذج عن طريق نظرية الألوان الثلاثة لصاحبها توماس
بويج. استعملت هذه النظرية في عام النفس لفهم الملكات وترابط وتمازج
الأفكار.....
وهكذا
بعد أن كان الاهتمام مركزا عن علاقة الروح بالجسد أصبح الاهتمام موجها إلى
علاقة العقل بالجسد وبالبيئة المحيطة به . ولكن هذا الاهتمام لم يكن وقفا
على المهتمين بعلم النفس بل تعداهم ووصل حتى للفلاسفة .ديكارت تناولها على
أنها علاقة تفاعلية توارثية. أما كانط اعتبر أن الذات النشطة هي التي تنظم
الخبرة داخل عامل الزمان والمكان وبهذا وكان ومن حيث لا يدري المبشر الأول
للقشطالط GSETALT
.ثم توالت النظريات و المدارس. سنة 1812 نشر دي بريان "مقال في أسس علم
النفس" تعرض فيه لأسس علم النفس وهو بهذا يعتبر البادئ في الاعتراف بعلم
النفس كعلم مستقل. في سنة 1816 هر بارت" كتاب تعليمي في علم النفس". وكتاب
ثان سنة 1924يحمل عنوان "علم النفس بوصفه علما. لم يدع فيه مجال للالتباس
في تقديم علم النفس كعلم مستقل وقائم الذات.وهكذا وبالرغم من بدء التعامل
مع علم النفس كعلم مستقل فانه ظل ولمدة طويلة يستعمل مناهج علوم أخرى
.استعمل مثلا منهج الرياضيات ليعبر بها تعبيرا كميا عن تفاعل الأفكار.
واستعملت مناهج الفيزيولوجي النور ولوجي الخ...الخ..
إذن
كانت الكنيسة تعتبر أن الروح هي جوهر الإنسان ولها علاقة وثيقة بوجدان
الفرد . بعد القطع معها ربطت النفس '(المعوضة للروح) باجتماعية الفرد . هذا
جيد ... لولا وقع الاحتفاظ بالبعد الوجداني. لكن هذا القطع لم يكن عرضيا
بل
إسقاطا ما افترضه البعض الذين لا علاقة لهم بهذا الموضوع وأسقطوه تعسفا
على الفرد. من هم المعنيون بهذه الافتراضات هم ما يعرفون بالسلوكيين أي
مؤسسو المدرسة السلوكية. مؤسسو المدرسة السلوكية لم تكن لهم علاقة لا في
تكوينهم ولا في اهتماماتهم ولا في مهنهم لا بالنفس ولا بالبشر.اشهر مشاهير
هذه المدارس واطسن.. كان مختصا في علم الحيوان zoologie
...ثم انتقل بمعارفه وقناعا ته وأدوات عمله إلى علم النفس. منذ البداية
وضع واطسن النقاط على الحروف حيث اعتبر أنه "لا يمكن أن يكون موضوع علم
النفس الفكر ولا الحياة الداخلية ولا الدوافع بل فقط السلوك الخاضع
للملاحظة أي ما يفعله الكائن البشري منذ ولادته حتى موته. وليس لعلم النفس
بالوقائع النفسية الفردية غير الخاضعة للضبط. (المعجم الموسوعي لعلم النفس
ترجمة واعداد الدكتور رالف رزق الله ص 215).ماذا انجر عن هذا التوجه وهذه
القنا عات؟
خلفيات المدرسة السلوكية.
أن
المدرسة السلوكية أ لغت كل ما له صلة بالعقل والعواطف والمشاعر
والأحاسيس. لماذا؟ لأن هذه الأبعاد هي المتهمة بتعطيل الأداء الجيد للفرد
في المجموعة وبدونها يصبح لكل فرد مكانه المعين له منذ ولادته لغاية موته
لا يحيد عنه ولا يفكر مجرد التفكير فيه. مثله مثل أي نحلة أو نملة تعرف
مكانها غريزيا لذا تقوم بواجباتها في المجموعة آليا بكل دقة ونجاعة..اذن
جاءت السلوكية وقطعت مع إنسانية الانسان...وبذلك تكون قد حادت بعلم النفس
عن موضوعه....وأرجعت الفرد البشري إلى غرائزه. فعن طريقها يمكن ترويض الفرد
كما يروض الحيوان...وهكذا وجد واطسن الحلقة الضائعة نفسيا قبل أن تجد
نظرية النشوء والارتقاء الحلقة الخلقية الضائعة.
السلوكية
لم تكن ردة فعل عرضية عما كان شائعا من مدارس ومناهج ولكنها تتويجا لتمش
تابع لأيديولوجية معينة . لأن السلوكية لم يكن لها أن تعرف هذا الانتشار
بدون خلفية النشوء والارتقاء. هذه النظرية ذاتها لم تكن جديدة عندما
تناولها دروين. فهي على سبيل المثال لا الحصر كانت نظرية لابلاص في علم
الفلك. وكانت ركيزة من ركائز علم الاجتماع مع فوربيه. وكانت من النظريات
المهيمنة في الجيولوجيا مع سبنسر الخ..الخ..
نظرية
النشوء والارتقاء ترتكز على فكرتين رئيسيتين الانتخاب الطبيعي والصراع من
أجل البقاء .تبناها داروين بعد اطلاعه على أعمال ملتمس في كتابه" مقال في
السكان" حيث يعرض الفكرة التالية أن درجة الإخصاب الطبيعي عند الأنواع لا
تتناسب مع أعدادهم الواقعية. لماذا؟ للجواب عن هذا السؤال افترض أن عدد
السكان محكوم بأسباب طبيعية لا علاقة لها بالقدرة الفعلية على
التناسل.ويذكر أن من بين هذه الأسباب الأمراض والحروب.
انبهر
داروين باطلاعه على هذا العمل ..فتبناها ومنها انطلق في بناء نظريته
فارتأى أن الصراع على البقاء لا بد له من آثار أخرى غير الأثر الكمي
واستنتج أن القصد من هذا الصراع ليس إلا إبقاء هذه الأنواع في حدود معينة.
وافترض سيمات معينة يمتلكها الأفراد تساعدهم في صراعهم من أجل البقاء .وهنا
يكمن سر مقولته "البقاء للأفضل". وبفضل القوانين التي وضعها مالتوس فسر
كيف يتمكن الأفضل من توريث سيماته لأبنائه.مع إشارته إلى أن هذه الصفات سوف
تبرز عند بعض الأبناء وتكمن عند البقية منهم. ولكن عند الذين تبرز عندهم
ستكون متطورة أكثر مما كانت عند أبائهم..وهؤلاء هم الذين سيميلون إلى
البقاء...وهكذا.
نلاحظ
كيف انقلبت الآية بعد أن كان الخلود مع الأديان في السماء لمن هو "أتقى"
أصبح مع نظرية النشوء والارتقاء البقاء في الأرض لمن هو أقوى( وهذا على
سبيل المثال ما تطبقه القوة الأقوى ...في العالم الآن).أي بعد أن كان
البقاء للأفضل أصبح البقاء للأصفى جينات ... وهكذا كما أبتلي العقل بتحجر
الكنيسة ابتليت إنسانية الانسان...بهذه الأيديولوجية...التي لأصبحت" تكفر"
كل من لا يدين بها. مع نظرية النشوء والارتقاء وقع الرجوع للغريزة بصفة
مقنعة حيث نواسطتها تواصل تجاوز إنسانية الإنسان دون أن تحل مشاكله
اليومية ..لن مالتوس كان يبحث عن تطبيقات لنظريته على النوع البشري...وكان
طموحه الإصلاح الاجتماعي.بصيغة أخرى لقد كان يبحث على كيفية لجعل الإنسان
يحتل المكان الذي يعينه له المجتمع..ليفني عمره فيه بكل نجاعة وبأقل
الأتعاب... خاصة للمجموعة.
وهذه
بالضبط طومحات المدرسة السلوكية كما رأينا.وهكذا بعد أن كان الفرد منبهرا
بما ينتظره في اخرته...أصبح مغلولا في واقع الاجتماعي.وأصبح العذاب الذي
كان يهابه في أخرته خبزه اليومي في واقعه الاجتماعي..حيث لقمة العيش في
عالم قضت فيه البطالة..ومختلف لأزمات والأمراض المعقدة والشذوذ.. على
مقومات الكرامة الإنسانية والعزة التي تميزه على بقية المخلوقات.
المنطلق
كما قلت كان في انبهار بعض العملين مع الحيوان بالتنظيم المحكم الذي
يميز حياة هذا الأخير الاجتماعية. هذا التنظيم الذي يجعله ناجعا في مواجهة
الطوارئ والأحداث وهذا بفضل تأقلمه السريع مع كل المستجدات الانطلاق كان من
هنا وركز كل الجهد على اكتشاف هذا التنظيم العجيب. ما الذي يجعل الحيوان
منظما ومنضبطا أكثر من العاقل ؟ وخيل لهم أن البلية تكمن في استعمال العقل
وكل ما يتبعه فحاولوا شطبه.
وهكذا
كانت السلوكية انقلابا على إنسانية الإنسان. وعوض البحث عن أسباب اختلال
فطرته...الشئ الذي أدى إلى عقمه. قطعوا بينه وبين هذه الفطرة وتاجها العقل.
كيف يعرف السلوكيون علم النفس في هذا الاطا ر؟ ويجيب ماكدوقال
"العلم
الموضوعي لسلوك الكائنات الحية " (عن فلوقل علم النفس في مائة عام ترجمة
لطفي فطيم ص 175دار الطباعة بيروت) نلاحظ هنا التعتيم المقصود لتبرير ما هو
مقدوم عليه لقد أصبح مه هذا التعريف مع هذا" العلم الموضوعي".الانسان
كائنا حيا كبقية الكائنات الحية مثله مثل النملة والبطة والفأر
والخنزير...بمعنى ليس له ما يميزه عنها. في سنة 1911 أصبح علم النفس مع
بالسبوري "علم السلوك"(نفس المصدر السابق ص 175) السلوك بمعنى ردة الفعل
التي ليس لها أي إضمار أو قصد خرجا عن المؤشر الذي نتجت عنه... وهكذا يقتصر
الفعل البشري مع السلوكية على المؤشر(أي الحافز) وردة الفعل stimulus-réponse .
وهكذا شطب العقل مع اتهامه المضمر بتعطيل نقاوة ردة الفعل. وهكذا قطعت
الخطوة التي تفصل الإنسان عن الحيوان وأصبح يدرس بنفس الآليات والخلفيات
وهكذا بعد إجحاف الكنيسة بتقييد الفرد ليقترب من الرب "عيسى" انقلبت الآية
وزج بهذا الإنسان في حضيرة الحيوان ليعامل كما تعامل هي ويروض كما تروض هي.
وسط الاهتمام المتزايد بالحيوانات وسلوكها وبالتحديد سنة 1913 قدم واطسن مقالا مطولا بالمجلة السلوكية بعنوان
"
علم النفس كما يراه السلوكي" ويقصد بالسلوكي أي المتعامل مع سلوك الحيوان
وهنا يقصد التحديد نفسه باعتباره مختصا في سلوك الحيوان. يقول في هذا
المقال" يمكن كتابة علم النفس بتعريفه كما فعل بالسبوري(بوصفه علم السلوك)
دون التراجع مطلقا عن هذا التعريف ودون أن نستخدم على الإطلاق اصطلاحات
الشعور والحالات العقلية العقل والمضمون والإرادة والتصور وما يشابه
ذلك)(نفس المصدر السابق ص176 ) السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف نسمح لأنفسنا
هذا"الكائن" الذي سيطبق عليه هذا التعريف وهذا المنهج إنسانا؟ فما نوع هذا
الإنسان الذي لا شعور ولا عقل ولا إحساس ولا ارادة.. له؟ ولكن ومع هذا
يواصل السلوكي اعتباره إنسانا بالرغم من شطبه لكل مقومات انسانيته.هكذا
توهم القابعين وراء هذه المرتكزات تمكنهم من جعل الإنسان حيوانا
متطورا(وهذا ما تنادي به نظرية النشوء والارتقاء) وتطوره ليس في عقله.
لماذا؟ لأنه يعتقد أن نجاح
الحيوان في" اجتماعاته" هو في راحته من تساؤلاته العقلية والوجدانية.
ولهذا وجب إعادة النظر في كل هذا على أن يحصر كل دوره في الحياة في أداء
دوره الإنتاجي الاجتماعي لظمان قوته وتكاثره. مثله مثل الحيوان لا يتناسل
بل يتكاثر. فنجد مثلا أن التنظيم في بيت النحل يكون بطريقة هرمية تؤدي إلى
خدمة وراحة الملكة. ودورها كما يقول Alexandre Fronty
"فهي في نفس الوقت روح وأم المجموعة.وتقضي معضم وقتها في البيض بدون
انقطاع بوتيرة عجيبة من 15.. الى2.. بيضة في اليوم. وبقية النحل مسخر لهذه
الغاية.الكل يعمل من مكانه ودوره في الخلية بنجاعة مذهلة ... وهذا ما يبهر
السلوكيين .ماذا يمكن أن ينتج عن تحييد العقل؟ النكوص إلى الغرائز. وهنا
تلتقي المدرسة السلوكية ونظرية النشوء والارتقاء.. بمعنى أن البقاء للأقوى.
فالذكر المهيمن على الإناث في القطيع لا يستمد قوته وسلطته من ذكائه ولا
من أخلاقه بل من قوته العضلية. وهذا من سوء الحظ ما يطبق في المعاملات
الدولية