يُعد
البحث التربوي أحد الادوات الهامة التي لا غنى عنها لمواجهة المطالب
المتجددة لمنظومة التعليم , سواء من حيث تقديم معالجة علمية موضوعية للمشكلات
و القضايا , أو من حيث صوغ الحلول و القرارات التي يقود تبنيها نحو تطوير
الأداء التربوي عموما , و ضمان القوة و الفاعلية للمؤسسة التعليمية في ظل
عالم ينحو بقوة نحو الإبداع ,و تصنيع المعرفة باعتبارها وقود النهضة الحديثة .
فالمنظومة
التعليمية في أي بلد لا يمكنها أن تستقيم و تنجح في أداء دورها كقاطرة
للتنمية , وركيزة أساسية في البناءالحضاري إلا إذا تمتع البحث التربوي
بسلطة القرار في تدبير وتوجيه السياسة التعليمية , من خلال مراجعة المناهج و
البرامج , و تقويم الكفايات وطرائق التدريس , ورصد العوائق و الإكراهات التي تحد من فاعلية المخططات
و المشاريع التربوية , سواء كانت هذه الإكراهات داخلية متولدة عن خلل في
تنزيل التصورات , أو خارجية منبثقة عن تفاعل المؤسسة مع محيطها الاجتماعي و
الاقتصادي .
و
بالنظر لما تعانيه المدرسة من تراجع في أدوراها , وعجز عن الاستجابة
للاقبال المتزايد على التعليم , و بطء شديد في مسايرة التطور التكنولوجي
المُذهل , فإن البحث التربوي يغدو مطلبا اجتماعيا لمواكبة الحاضر . و لن
يتأتى ذلك إلا بالحد من مبادرات ملء الفراغ التربوي باستيراد مخططات ونظريات منزوعة من سياق اجتماعي وفكري يبلغ حد التصادم مع واقعنا .. وقيمنا ..ومعتقداتنا !
إلا أن الرجوع إلى ما تم تداوله في عدد من الأبحاث و الدراسات حول الوضع الراهن للبحث التربوي يُشعرك أنك أمام مُعضلة يتعذر حلها ! فخطاب الإكراهات و المعيقات يحملنا على الجزم بأنه لم يغادر بعدُ خانة الرفاهية الأكاديمية ! و أن هم الباحث هو الحصول على مركز اجتماعي , أو نيل درجة علمية !
يحدد الدكتور حسن شحاتة (1) أسباب الأزمة القائمة في البحث التربوي كما يلي :
- انطلاقا من كون مادة البحث التربوي – وهي الإنسان- مادة معقدة فإن الباحث يجد نفسه أمام متغيرات كثيرة في العملية التعليمية يصعب ضبطها عكس الباحث في مجال العلوم الطبيعية مثلا .
- قصورعلم التربية على المستوى النظري فيما يتعلق بإيجاد حلول لعدد من القضايا التربوية , ومرد ذلك إلى التقدم البطيء في أدوات القياس بسبب تعقد المشكلات التربوية .
- اعتماد
القيادات التعليمية على خبراتها و اجتهاداتها التي تفتقد للدقة و
الموضوعية و تميل في أحيان كثيرة إلى تغليب الهوى السياسي لكسب تأييد وهمي ,
وهو ما يفضي إلى تبني حلول هشة , و إصلاح مرتبك يزيد الوضع تأزما .
- مشكلة المصطلح التربوي التي لازالت تُعيق التوصل إلى وحدة المدلول , وبالتالي الحد من إمكانية التعاون المشترك و تبادل الخبرات .
- كبح جماح التفكير العلمي منهجا و أسلوبا بسبب سيادة التعليم " البنكي " و المعرفة السلطوية اليقينية التي لا تعترف بقواعد المنهج العلمي الحديث من احتمالية و نسبية و تعددية .
- النقص الحاصل في المخصصات المالية و المكافآت المرصودة للباحثين و المراجع العلمية .
- حشو البحوث بالمعطيات الإحصائية و الأرقام لإضفاء
العلمية و الموضوعية دون التنبه إلى كونها مجرد حقائق جامدة صماء تستلزم
حسا بحثيا يُضفي عليها التفسيرات النفسية و التربوية و الخلقية اللازمة من
واقع الخبرة المهنية , مما يقضي على روح البحث , وشخصية الباحث !
- عدم
توافر خبرة تدريسية لدى الباحث التربوي مما يدفعه إلى الخوض في أفكار و
تنظيمات لا تلائم الواقع .وهو ما يُفقد الممارسين الميدانيين ثقتهم في
نتائج هذه البحوث .
- أخطاء تقنية متعلقة بالخلل في التحليلات الاحصائية , وغياب التماسك الناتج عن الترجمة الحرفية المُخلة بخصائص التراكيب العربية .
أما
في دراسة أعدتها المنظمة العربية للتربية و العلوم و الثقافة "ألكسو" فقد
وردت المعيقات في صيغة مآخذ انصبت بالأساس حول الباحث التربوي , ولعل أهمها
:
- الافتقار للأصالة و الإبداع وذلك من خلال تكرار بحوث الغير , و غلبة البحوث الوصفية و التاريخية على
البحوث التطبيقية , وعدم ارتباط البحث بالواقع المحلي .
- عدم التعامل مع البحث التربوي كفرع معرفي خاص يحمل دينامية نموه , فصارت جل رسائل
الماجستير و الدكتوراه مجرد استعادة و تعريب للبحوث الغربية .
- التركيز على حل مشكلات النظام التعليمي و إهمال المشكلات الناجمة عن ارتباطه بالمجتمع.
- كثرة الأخطاء في بناء البحوث و تنفيذها , و المشكلات الفنية في تصميم البحوث و إجراء المقارنات و البيانات .
- الافتقار إلى سياسة و اضحة تستند إليها الجامعات و المراكز البحثية في ضبط أولويات البحوث بالرجوع إلى حاجيات المجتمع و متطلبات المشاريع التنموية .
من خلال ما ذُكر يتضح لنا أن سؤال الجدوى يطرح نفسه بقوة في
غياب إرادة جادة تُمكن البحث التربوي من استعادة موقعه في قيادة قاطرة
التجديدالتربوي . إذ لازالت أغلب التوصيات و القرارات حبيسة الرفوف , ولم
تنكمش بعدُ المسافة بين خطاب واعد , وواقع صادم تكشف عنه الإحصائيات .
فنسبة الانفاق على البحوث العلمية لا تتجاوز 0.116 % من
ميزانية الدول العربية قاطبة , أما عددالبحوث التي تجري في الوطن العربي
فلا تعادل نظيرتها في جامعة أمريكية واحدة كجامعة هارفارد !
لذا
من المفارق حقا أن يغص الخطاب التربوي الحديث بشعارات من قبيل : ثقافة
الإبداع لا ثقافة الإيداع , و الانفتاح الثقافي , والتعليم للحياة , وبناء
مجتمع المعرفة , في الوقت الذي تميل فيه السلطة التربوية إلى تفضيل المنتوج
المستورد , وتمكين المقاولة البيداغوجية الأجنبية من فرصة تجريب وصفاتها
المريبة في حقل يُفترض أنه خزان الهوية و القيم , ودعامة البناء الحضاري !
إن
أي حل لمعضلة البحث التربوي لا يمكن أن يتحقق قبل تشكل قناعة راسخة لدى
القيادات التربوية بجدواه و فاعليته , والإيمان به كمدخل رئيسي لأي إصلاح
تربوي .