عبثاً حاول السابقون أن
يحدّدوا صفات المرء المرشّح للإصابة بالقرحة، فما أفلحوا، إذ أنّها تصيب
السمين كما تصيب النحيف، وتصيب الرجل الهادئ كما تصيب الرجل الغضوب. قبل
اكتشاف الأدوية الحديثة الفعّالة، كانت نسبة حوادث القرحة بين البشر تفوق
العشرة بالمائة. وقد بيّنت الدراسات حدوث القرحة في كل العصور تقريباً،
بناءً على الكتابات اليونانية القديمة وفحوص المومياء الفرعونية. ومن
المعروف أنّ الكثيرين من رجال التاريخ كانوا قد أصيبوا بها، ومنهم نابليون
الذي عُرضت أمعاؤه المصابة على الزائرين في أحد متاحف فرنسا.
لقد كان واضحاً منذ عقود سابقة أنّ أحد
أسباب القرحة هو تناول أدوية تؤذي غشاء المعدة مباشرةً، كما أنّها تضعف
الطبقة الهلامية الواقية له. ومن أشهر هذه الأدوية يبرز الأسبرين وما
يماثله من أدوية ضدّ التهاب المفاصل. من الأهمية بمكان أن نشدّد مرّة ثانية
بأنّ القرحة التي يأتي بها الأسبرين سريعة الاندمال بعد التوقّف عن
تناوله، وهو ما لا ينطبق على القرحة الواسعة الانتشار في العالم، لا سيّما
في بلدان شرقي جنوبي آسيا وأميركا اللاتينية، التي عرفت بمعاودتها المتكررة
قبل أن يُكتشف أنّ سببها جرثومة تستوطن المعدة وهي جرثومة (H.pylori).
ومن أجل إعطاء صورة وافية عن العوامل
الأخرى التي تساهم في إصابات القرحة، نشير إلى دور حامض المعدة في هذا
المجال، لا سيّما متى كان مفرطاً، وفاض عن الحاجة، إذ قد تطرأ حالات نادرة،
تندرج فيما يُسمى "متلازمة زولنجر وأليسون"، وهي حالات قاسية تتميّز
غالباً بظهور عدة تقرّحات معاً في المعدة والأمعاء مترافقةً أحياناً
بالإسهال وانخفاض الوزن. والسبب وراء كل ذلك أورام في البنكرياس أو الأمعاء
تفرز دون ضابط هرمون الجاسترن، الذي جاء ذكره سابقاً، كمُحرّض رئيسي
لتوليد حامض الهيدروليك.
أعراض القرحة:
أكثر الأعراض شهرةً ألمٌ في مساحة محدودة
من أعلى البطن، قريبة من السرّة، يستشعره المصاب عادةً بين وجبات الطعام.
وهو ينخفض شدّةً أو يختفي خلال الوجبة أو عند تناول الأدوية السريعة الفعل
في مكافحة الحموضة، كالمالوكس مثلاً (Maalox).
ولكن بعض المصابين بالقرحة لا يشكون من أي
ألمٍ يُذكر، ويبقى الواحد منهم غافلاً عن إصابته حتى تفاجئه إحدى
مضاعفاتها المعروفة وأهمّها النزيف، متظاهراً بغثيان وقيء سائل فاحم اللون
كالقهوة، أو بتبرّز غائط أسود كالزفت، قد يترافق بالدوخة. وعند وجود
مضاعفات كهذه من البديهي أن يطلب المصاب السعفة من جهاز طبي يعمل في قسم
الطوارئ، أو على الأقل أن يستشير بسرعة طبيبه العام للاستفسار وأخذ النصح،
هذا ما العلم أنّ التداوي بأقراص الحديد يعطي للبراز لوناً مشابهاً.
وحديثاً صارت المداخلة الأولى لإيقاف النزيف منوطة بأخصائي التنظير، إلا في الحالات الصعبة حين يتدخل الجراح بمبضعه.
علاج القرحة:
قد تغيب القرحة وترمم موضعها لفترة من
الزمن بصورة تلقائية دون مداخلة علاجية، ولكنّها تعاود مراراً ما لم ينتفِ
السبب الدافع، وأهمّه الإصابة بالجرثومة اللولبية (H. pylori). ولذا يجدر
التحذير من ادّعاءات يروّج لها تجار الأعشاب أو بعض الأطباء أحياناً ممّن
يكتفون ببعض النتائج الإيجابية التي يحصلون عليها بعد استخدام دواء أو نبات
على عدد محدود من المرضى دون الالتزام بالشروط العلمية السليمة.
في سبعينات القرن الماضي، اكتشِفَت أدوية ذات فعالية عالية في علاج القرحة، أشرنا اليها في الفصل الساب.
ولكن معاودة القرحة، بعد فترة تطول أو
تقصر، بقيت مشكلة صعبة الحل، إلى أن تمّ اكتشاف السبب الأهم في الإصابة
بها، وهو جرثومة ذات مواصفات تمكّنها من غزو المعدة والاستيطان فيها،
مولّدةً التهاباً مزمناً في غشائها يجعلها عرضةً لتجدد الإصابة بالتقرح
مرّةً بعد أخرى.
وعليه أصبحت أخيراً المضادات الحيوية ضدّ
الجراثيم كالبياكسن (Biaxin) وأموكسيسيلين (Amoxicillin) هي السلاح
الفعّال في القضاء على هذه الجرثومة (H. pylori)، وبالتالي للتخلّص من
القرحة، من دون هاجس المعاودة. ولكنّنا استدراكاً ننبّه إلى أنّ بعض سلالات
هذه الجرثومة تستطيع أن تقاوم فعل المضادات الحيوية حتى وإن استخدمت ثلاثة
أنواع منها معاً، ولذا صار إلزاماً على من يأخذ العلاج تحليل برازه، وهو
الأسهل، أو إجراء فحص النفس في مختبر خاص بعد عدّة أسابيع من انتهاء العلاج
للتأكّد من أنّه قد تجاوب فعلاً مع العلاج وتحرّر من الجرثومة.
وأخيراً نأمل أن تتمكّن الحكومات،
بالتعاون مع مؤسسات الصحة على حماية البيئة، بالحدّ من شرّ هذه الجرثومة أو
أن تتمكّن على الأقل من إيجاد لقاح ضدّها، فتختفي الإصابات بالقرح الهضمية
المعاودة.